ذهب مع الريح…ØŒ لسمير رضوان

على سفح جبل المقطم في قاعة هذا القصر التي تتضاءل كلمات الفخامة والأبهة أمام روعته، وتحديدًا في قاعة الاستقبال التي تُعتَبر أجمل ما في القصر.

تلك القاعة المزينة بأرقى فنون الزخرفة العثمانية، فجدرانها المزرقشة بنسيج من الألوان والرسوم والنقوش، والأرائك المصنوعة من خشب الأبنوس، التي تشكل تحفة لا تقدر بثمن، والمحشوة بأرقى أنواع ريش النعام، والمكسوة بالحرير الأحمر القاني، وأعواد البخور ورائحة المسك الفواحة، تغمر المكان بعبقها الساحر.. ذلك القصر الذي لا يليق به اسم سوى (الجوهرة) تتوسط القاعة أريكةٌ أعدت خصيصًا للوالي، الذي ملأت هيبته وصيته بلاد الشرق والغرب، والذي أفزع السلطان العثماني في اسطانبول عاصمة الخلافة العثمانية، يتكئ “محمد علي باشا” في مجلسه في هيئةٍ لم يعهدها أحدُ الأمراء والملوك من قبله، تلك كانت العلامة المميزة للوالي الجديد، وكأَّن لسان حاله يقول : ها قد استقر لي الحُكم، وخضعت لي الممالك، والسلطان بهيبته وجلاله يحسب لي ألف حساب. أما حاشية الوالي في تنوعها، فإنها تستمد هيبتها من هيبة الوالي، على يمينه وشماله مجلس الحكم من الأعيان، وبين يديه إرجيلته المفضلة يجثو أحد الخدم ممسكًا بها واضعًا الجمر وكأنه حبات كرز، وعلى أطراف المجلس فلاح في زيه المميز وطاقيته البنية المنسوجة من صوف خروف، قد غزلته له زوجته بأناملها البديعة. شيءٌ غريبٌ موجود هذه المرة بين يدي الوالي، إنه كيسٌ كبيرٌ مملوءٌ ببذور!! بذور!! ماذا يا تُرى؟! يشير الوالى بعصاته إلى الكيس، ثم ينادي على الفلاح : افتح هذا الكيس، وخبرنا ما به .. يتقدم الفلاح خطوتين ويجلس القرفصاء، ثم تفك أصابعه ربطة الكيس ØŒ ويدس كفه ليخرج حفنةً من البذور، يصوّب الجميع بصره نحو حفنه الفلاح، ويحملقون في دهشة، هامسين في أنفسهم: ما تلك البذور الغريبة التي لم نعهدها من قبل؟!!! في تلك اللحظة يقطع الصمتَ صوتُ الوالي: أخبرنا أيها الفلاح، هل في مصر المحروسة مثل هذه البذور؟ وهل تدري لأي نوع من الأشجار هي؟ يدقق الفلاح نظره ويأخذ حبةً ØŒ إنها محاطة بألياف بيضاء تشبه الحرير، وضع حبة بين أضراسه، فإذا بها تنز بعضًا من الزيت، يحار فِكْرُ الفلاح، وتتلعثم شفتاه، بماذا يجيب؟؟؟!! : ولسان حاله يقول: (إنْ كنتَ لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنتَ تدري فالمصيبة أعظم). في تلك اللحظة أنقذت قهقهات الوالي التي تردَّد صداها في البهو، فانفرجت أسارير الفلاح، فقد كانت تلك القهقهات طوق نجاة له من ورطته. قال الوالي بلكنة عربية ممزوجة بالتركية: اسمع فلاح مصري أصيل.. ولدي ووزير جيوشي (إبراهيم باشا) أحضر لي هذا الكنز، إنه بذور لشجرة يسمونها القطن ØŒ تثمر أليافًا بيضاء تشبه الحرير، أريد أن أزرعها في مصر. يستمع المجلس لكلام الوالي في إعجاب مرددين وهم يهزون رؤوسهم: عظيم يا باشا عظيم!!! يقول الوالي بلهجة الواثق مما يفعل: إذا كان الفراعنة قد استخرجوا الذهب الأصفر من أرض مصر الطيبة، فأنا سأملأها بالذهب الأبيض. وهنا نسمع صوت كبير الوزراء : ولكن يا مولاي كيف نقنع الفلاحين بزراعة هذا المحصول، وهم لا عهد لهم به، ولا يعرفون جدواه؟!! الوالي: الأمر بسيط ØŒ أصدر فرمانًا ينشر في الوقائع المصرية بزراعة القطن بأمر الوالي، وأن من يخالف أمر الوالي يعاقب بالسجن ونزع ملكيته. على واجهة دوار عمدة إحدى القرى في أعماق الريف المصري يقرأ أحد الفلاحين منشورًا من الوالي: (يا أهالي مصر المحروسة.. أصدرنا نحن محمد علي باشا والي مصر فرمانا بزراعة محصول القطن، ومَن يتخلَّف عن المرسوم، فإن جزاءه السجن والحرمان ونزع ملكيته على أرضه).. يمسك الفلاح بذقنه هامسًا: أخشى أن ينزع الوالي روح الفلاحين الذين يخالفونه قبل أن ينزع أراضيهم كما فعل في مذبحة القلعة. وما هي إلا شهور معدودات وقد فَرشت سجادةٌ بيضاءُ غطَّت معظم الوادي والدلتا تنافس في روعتها وجمالها كلَّ زرابي الفُرسِ. وقبل أن يموت الوالي كتب وصيته وكان مِمَّا أوصى به: (أن يحتفظ الوالي الجديد بكيسٍ من بذور القطن للعام التالي ليحافظ على تلك السلالة النادرة، وأن تكون هذه عادة كلّ والي) . تمر السنون تلو السنين، ومما تزال أرض مصر مفروشة بتلك السجادة البيضاء صيف كلِّ عامٍ، والتي نسجت خيوطها من الذهب الأبيض. إلى أن جاء (والي) يبغض الوالي الأول، وأول ما فعل أن مزق وصيته، وأخذ كيسَ القطن ودفنه في مكان لا يعلمه إلاَّ هو، وداسَ بأقدامه الملوثة على تلك السجادة فشوهها، ثم عبثت كل الأيادي الملوثة بتلك السجادة ولطخوها.. وما هي إلا سنوات وذاع خبر وفاة الـ(والي) فلم يحضر سوى بضع نفرٍ، يحملون نعشه، همس أحدهم لصاحبه: أين خبأ (والي) كيس بذور القطن؟ فأجابه: لقد سمعتهم يقولون: إن الـ(والي) كان يحمل كيس القطن ويذهب إلى الصحراء في جنح الليل كلما هبت الريح ويذرُّ البذور، وقد ذهبت بذور القطن مع الريح!!!

سمير حسن رضوان

دبي

الاثنين 9/12/2019

مجموعة قصصية بعنوان (النهر الجاف).

Related posts

Leave a Comment